أيّها الأستاذ الحبيب،

بيننا وبينك حكاية عمر لا تطفئها رياح السنين، ولا تغرقها أمواج الزمن. حكاية خبز، وملح، وزهر ربيعيّ، وشجر من الكلمات، وتاريخ من الشّعر الجميل والوفاء الجميل. فأنت لم تعلّمنا الموادّ المدرسية فحسب، إنّما علّمتنا احترام كرامة الإنسان، وحرّيته، وحبّ الحق والعدالة. ربّيتنا على القيم الكبرى، قولاً وفعلاً، فصدّقنا وآمنّا بأنّ المعلّم رسول وليس أجيراً. وكنت أنت الرسالة، وكنت أنت الضحيّة والقضيّة. القضيّة التي جاوزتك لتشمل ألوف المعلّمين في لبنان المهدّدين في كلّ عام بالتشريد. أولئك الذين دافعت عنهم أينما كانوا، مخترقاً صفوف الطوائف كسهم نظيف. وكلّه من فَلس الأرملة ومن خبز أولادك. فكان ما كان من قصّة المؤامرة الكبرى على حرّية الكلمة والموقف. جيش أسود يدّعي الفضيلة، وذئاب بلباس حملان، حشدوا نفوذهم وسلطاتهم وأموالهم، لكن “قدُمك على المال الذليل”. لأنّه كان لك شرف قيادة ثورة معلّمي الشمال على النقابة المزرعة، وشرف قيادة النقابة الحرّة القرار، ولوضعك أصابعك العشر في وجوه مغتصبي حقوق المعلّمين. غالياً دفعت الثمن، ولا همّ، فتلك ضريبة القرار الحرّ. إذ لا الضمير يباع ولا القلم يُشرى، و”دولة الشعر لا تربّي عبيداً”. فدافعت بالموقف الحقّ، وحاربت بالضمير الحيّ. وربحت، لا لأنّك ذو نفوذ وسلطة، بل لأنّك قويّ الكلمة والموقف، وملتفّ بعباءة الوفاء، وناضح بعرق الجبين الشريف، ومُحاط بالأحبّاء المثقّفين، والشعراء، والمعلّمين، والمحامين، والصحافيّين، والنّاس الطيّبين، وبجيش طلابك الأوفياء، وبحبّ شارع زغرتا كلّ زغرتا، وبحبّ شارع طرابلس كلّ طرابلس، وبحب شارع لبنان كلّ لبنان. ولأنّ قصائدك ورسالات حبّك الكثيرة أضاءت كالشهب في السماء، من فوج طلاب إلى فوج آخر، ولا زالوا يخبرون عنك “يا نقيب”، ويقولون: مرّ علينا أستاذ “غير شكل” وغيّر منّا النفوس قبل النصوص.

 

أيّها الأستاذ الحبيب،

صفحةٌ تُطوى، وتُقلَبُ أخرى… وها أنا تلميذك الذي صار اليوم أستاذا، أعترف لك، وأمام الجميع، أنّه كلّما هبّت موهبة في أحد صفوفي، و”لاح بارق في محيّا” بلغة الأخطل الصغير، أشعر أنّ ديناً عليّ إيفاؤه. دين حمّلتني إيّاه مذ كنتُ شابّاً درستُ عليك. ولستُ الوحيد البراء من هذا الدّين، الجميل، بل أكاد أقول لم يطلع شاعر أو أديب أو فنّان في منطقتنا إلاّ وفيه “لطشة” منك ورائحة من حبرك في بواكيره. كما أعترف لك أيضاً، وأمام الجميع أيضاً، أنّ فضلك على منطقتنا كبير، وظلالك الثقافية الوارفة لا تزال ممتدّة في أروقة صروحنا التربوية، وفوق دروب بلداتنا، سهلاً وجبلاً. فكيف لا نتذكّرك، بل كيف ننساك؟، وكنّا ثلاثة براعم تفتّقت على هواك، أنا وصديقيّ العزيزين حميد الدويهي وميشال الشام، يوم أطلقتنا شعراء كالحمام فوق سطوح الشعر، ثمّ وقفنا وِقفة عزّ يوم صرفك من المدرسة، على تصفيق مئات التلامذة واحتجاج المسؤولين. كيف لا نتذكّرك، بل كيف ننساك؟، كأنّك الساعة، واقفاً عند باب صفّنا في مدرسة الفرير في كفرياشيت، محنيّ الرأس قليلاً على تواضع وكِبَر- رائحتك خبز ومطر- محتضناً بين أناملك المتعرّقة كتباً وأشعاراً وديك “النهار”، ملتفّاً بشالك الصّوف وبدخان سيجارتك المتدلّية من فمك، مطفأة ومنسيّة، وقد غفا قليل من صفوتها على ياقة معطفك الرماديّ الشتويّ. وكنّا ما أن ندخل، وأنت تدخل، وينغلق الباب، حتّى تشرّع لنا أبواباً أخرى ونوافذ أخرى. نوافذ أبعد من كفرياشيت. نوافذ تطلّ على الله، وملائكة الشعر وشياطينه، وحوريّات الجمال، وبخور السحر، ونار الشعر، وشوارد الزمن، وحكايات الجنون العذب. تنقلنا بخفّة ساحر من مغامرات امرؤ القيس إلى مغامرات نزار قبّاني، ومن كبرياء المتنبّي إلى كبرياء أحرار العالم، ومن خمريّات أبو نواس إلى الفراديس الاصطناعيّة لبودلير، ومن نحت الكلمة عند أمين نخلة إلى حرارتها عند الأخطل الصغير، ومن وصف إبن الرومي إلى سريالية شوقي أبي شقرا، ومن صوت فيروز إلى رسولة أنسي الحاج بشعرها الطويل، ومن نزق الشعراء الصعاليك إلى محاكمة فلوبير، ومن سيّدة سبعل إلى الأم تيريزا، ومن أوراق الخريف في الضيع البعيدة الموحشة إلى أوراق العشب عند وولت ويتمان، ومن “ظلال” الأب ميخائيل معوض إلى مسيح الأبيه بيار وثورة عمر المختار وقدسيّة تشي غيفارا ونضال ليش فاليسا وإنسانيّة ألبير شويتزير.. تحوّل صفّنا، بحصّة واحدة، إلى مختبر للشعر والحرّية والإنسان.. تخاطبُنا عقلاً ووجداناً، بصوتك الدافىء المديد على بُحّة قصبة عند النهر، وكبحر تقاوم كلَّ ما يقمعُ ويُخيفُ ويُهينُ، وتهدم الضّحْل والكاذب والزّائف، وتشارك في إعلاءِ سُلطةِ الكلمة والخيالِ، وتحمّس على مُعانقةِ الحقيقةِ، وتخلق الحميميّة والدفء في النفوس، وتساهم بلا حساب في إهبابِ هواءِ الحرّيةِ وبعثِ الأملِ والايمان. كيف لا نتذكّرك بل كيف ننساك، وقد عرفناك وأحببناك، أستاذا مغايراً، وشاعراً حبيباً، ونقيباً مترفّعاً، وثائراً عنيداً، وأباً حنوناً، والأهمّ الأهمّ إنساناً عظيماً. فأهلاً وسهلاً بك، وبعائلتك الكريمة، وبأهلك وصحبك.. ونكاد نقول: قليل عليك هذا التكريم. فأنت كرّمتنا بعطائك قبل أن نكرّمك، وعاجلتنا بوفائك قبل أن نعاجلك به، كأنّما مكتوب علينا أن يصحّ الشعر فينا، فنردّ لك ما قلته عنّا ذات يوم:

“أهلاً بوفد الحبّ فاجأني…                     فخمّش وجنتيّا

 أنا أعرف الأحباب من                     لمس الثياب.. ومن يديّا

 من خفقةٍ بجوانحي..                       أو رفّة في مقلتيّا

 بيني مبين أحبّتي                          سرٌّ يقرّبهم إليّا

إنّي ختمتُ قصيدتي                        وكأنّني ما قلتُ شيّا”

فوزي يمين

 

السيرة الذاتيّة

أنطوان السبعلاني

ولد في سبعل- قضاء زغرتا- عام 1936، في عائلة مؤلّفة من ستّة أولاد: أربعة صبيان وابنتين اثنتين.

والده هواش ووالدته نزهة باعا بساتين الزيتون والأساور الذهب في سبيل علم أولادهما.

درس أنطوان في معهد الفرير- طرابلس (مراحل الدروس جميعاً).

تخرّج من صفّ الرياضيّات وكان متّجهاً للتخصّص في مجال الهندسة، غير أنّه لأسباب عائليّة موجبة جدّاً، إضطرّ للعمل فرحّبت به مدرسته معلّماً في العام 1956.

درس الحقوق لسنتين في الجامعة اليسوعيّة ثمّ مال عنها إلى الآداب، فنال من الجامعة نفسها إجازة في الأدب العربيّ، ومن الجامعة اللبنانيّة شهادة في الأدب الفرنسيّ.

في مطلع الستّينات قاد ثورة معلّمي الشمال البيضاء على نقابة المعلّمين، ثمّ ناضل نقابيّاً حتّى انتخابه نقيباً في 22 آذار 1970. بانتخابه من المعلّمين وحدهم، إنكسرت معادلة قامت عليها النقابة منذ تأسيسها عام 1938: سيطرة أصحاب المدارس عليها.

فغضب عليه هؤلاء:

فقسّموا النقابة في 10 أيار 1971

ثمّ صُرف من الخدمة مرّات ستّاً

كان شعاره كنقيب: كرامة النقابة والمعلّم قبل كلّ شيء.

وتحوّلت النقابة إلى مرجعيّة تربويّة مهمّة لوزراء التربية جميعاً ولرئيس الحكومة تقي الدين الصلح.

عام 1984 صُرف من فرير كفرياشيت من دون تعويض. فكانت المحاكمة المعروفة التي تطوّع لها 70 محامياً ودامت 17 عاماً.

إنتقل إلى مدرسة الرّيف- أيطو

ودرّس الترجمة في الجامعة اليسوعيّة- طرابلس(في الثمانيات)

في 1-11-1992 عادت النقابة على ما كانت عليه، وانتهى دوره كنقيب.

في التسعينات إنتقل إلى بيروت حيث مارس التعليم في غير مدرسة.

تزوّج أنطوان من جورجيت جرجي وهي معلّمة نقابيّة ولهما ثلاثة أولاد: بيار، شادي، وناتالي.

له في الشعر:

ـــــ خبز ومطر (1971)

ـــــ أصداء ملوّنة (1981)

ـــــ النورس آتٍ غداً (1983)

ـــــ وجعُ الخيام (2005)

ـــــ أسئلة في الشمس والكبرياء (2008)

ـــــ رجعُ المنابر (2012)

وفي النثر:

ـــــ قضيّة السبعلاني النقابيّ (2009)

ـــــ رسالات حبّ كثار في أجزائه الثلاثة (2010- 2013)

يتقن أنطوان ثلاث لغات: العربيّة والفرنسيّة والانكليزيّة، وهو مُعجَب كثيراً بالأدب الفرنسي، قديمه وحديثه.

إنّي حلفتُ.. فلا أبيتُ بخيمتي                   ما دام قربي جائعٌ، أو صادِ
كم نملةٍ نامت بجيرة بيدرٍ                     جوعانةً، يا منجلَ الحُصّادِ !
مَنْ صاد ذَنْبَ الطير ليس بصائدٍ             إنّ الشهامةَ رميةُ الصيّادِ !
***

هذي العيونُ الحورُ مَنْ غيري رأى            جنّاتِ عدْنٍ في شواطيها الحرامْ ؟
وإذا لعبتِ بزرّ فستانِ الغوى                    حامت حواليه عناقيدٌ مُدامْ
لا تُخبري أحداً بأنْ صرنا هنا                   ألشعرُ مُتّهمٌ، ولو صلّى وصامْ
ظلّي هنيهاتٍ هنا.. ثمّ ارحلي                    باقٍ على الرسّام تلوينُ المنامْ
***

ألبرْدُ يا عصفورُ يؤذيكا                         نمْ عندنا… بيتي يُدفّيكا
أخشابُه تحنو كوالدةٍ                              كانت على صغرٍ تُربّيكا
جوعانُ؟ لا تسألْ، أنا عنبٌ                      والخبزُ يكفيني ويكفيكا
يا صاحبي، بيتي على كتفي،                    كم ليلةٍ نمنا بواديكا
وحدي أنا يا جارُ، من زمنٍ                      أسكُنْ معي، لي حصّةٌ فيكا
***

لماذا يرجعُ الماضي إليّا ؟                        كفاني أنّني ما عدتُ شيّا
إذا الجاني على ضُعفٍ رمانا                     فحوِّلْ طعنةَ الجاني عليّا
ولا تثأرْ فليس الثأرُ منّا                           كبيرُ النفس لا يُمسي دنيّا
عزائي أنّني جُرحٌ أبيٌّ                            أتى الدُّنيا، ويتركُها أبيّا

***

أنا ذاكرٌ أمّي تهدهدني على                       حُبّ الجمال وحُبّ أرزي الأخضرِ
أوصيْتُ إبني قائلاً: يا ابْني اعتبرْ                وخُذِ الوصيّةَ من أبيكَ الأخبرِ
أُعبدْ إلهكَ يا صغيري مرّةً                        واعْبدْ بلادَكَ مرّتين وأكثرِ
***

أيّها الأستاذ الحبيب، بيننا وبينك حكاية عمر لا تطفئها رياح السنين، ولا تغرقها أمواج الزمن. حكاية خبز، وملح، وزهر ربيعيّ، وشجر من الكلمات، وتاريخ من الشّعر الجميل والوفاء الجميل. فأنت لم تعلّمنا الموادّ المدرسية فحسب، إنّما علّمتنا احترام كرامة الإنسان، وحرّيته، وحبّ الحق والعدالة. ربّيتنا على القيم الكبرى، قولاً وفعلاً، فصدّقنا وآمنّا بأنّ المعلّم رسول […]

Tags: النشاطات